فصل: مسائل في أحكام التيمم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


قال الزجاج‏:‏ لا أعلم فيه خلافًا بين أهل اللغة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا‏}‏ أي أرضًا غليظة لا تنبت شيئًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏ ، ومنه قول ذي الرمة‏:‏ كأنه بالضحى ترمى الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم

وإنما سمي صعيدًا، لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صعدات على غير قياس، ومنه حديث ‏"‏إياكم والجلوس في الصعدات‏"‏، قاله القرطبي وغيره عنه‏.‏ واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب، فقالت طائفة‏:‏ ‏"‏الطيب‏"‏، هو الطاهر، فيجوز التيمم بوجه الأرض كله، ترابًا كان أو رملًا، أو حجارة، أو معدنًا، أو سبخة، إذا كان ذلك طاهرًا‏.‏ وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والثوري، وغيرهم‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ الطيب‏:‏ الحلال، فلا يجوز التيمم بتراب مغصوب‏.‏ وقال الشافعي، وأبو يوسف‏:‏ الصعيد الطيب التراب المنبت، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏ الآية‏.‏

فإذا علمت هذا، فاعلم أن المسألة لها واسطة وطرفان‏:‏ طرف أجمع جميع المسلمين على جواز التيمم به، وهو التراب المنبت الطاهر الذي هو غير منقول، ولا مغصوب‏.‏ وطرف أجمع جميع المسلمين على منع التيمم به، وهو الذهب والفضة الخالصان، والياقوت والزمرد، والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، والنجاسات وغير هذا هو الواسطة التي اختلف فيها العلماء، فمن ذلك المعادن‏.‏

فبعضهم يجيز التيمم عليها كمالك، وبعضهم يمنعه كالشافعي ومن ذلك الحشيش، فقد روى ابن خويز منداد عن مالك أنه يجيز التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، ومشهور مذهب مالك المنع، ومن ذلك التيمم على الثلج، فروي عن مالك في ‏(‏المدونة‏)‏، والمبسوط جوازه‏:‏ قيل‏:‏ مطلقًا‏.‏ وقيل‏:‏ عند عدم الصعيد، وفي غيرهما منعه‏.‏

واختلف عنه في التيمم على العود، فالجمهور على المنع، وفي ‏(‏مختصر الوقار‏)‏ أنه جائز، وقيل‏:‏ يجوز في العود المتصل بالأرض دون المنفصل عنها، وذكر الثعلبي أن مالكًا قال‏:‏ لو ضرب بيده على شجرة، ثم مسح بها أجزأه، قال‏:‏ وقال الأوزاعي، والثوري‏:‏ يجوز بالأرض، وكل ما عليها من الشجر والحجر، والمدر وغيرها حتى قالا‏:‏ لو ضرب بيده على الجمد، والثلج أجزأه‏.‏

وذكر الثعلبي عن أبي حنيفة أنه يجيزه بالكحل، والزرنيخ، والنورة، والجص، والجوهر المسحوق، ويمنعه بسحالة الذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، لأن ذلك ليس من جنس الأرض‏.‏

وذكر النقاش عن ابن علية، وابن كيسان أنهما أجازاه بالمسك، والزعفران، وأبطل ابن عطية هذا القول، ومنعه إسحاق بن راهويه بالسباخ، وعن ابن عباس نحوه، وعنه فيمن أدركه التيمم، وهو في طين أنه يطلي به بعض جسده، فإذا جف تيمم به، قاله القرطبي‏.‏

وأما التراب المنقول في طبق أو غيره، فالتيمم به جائز في مشهور مذهب مالك، وهو قول جمهور المالكية، ومذهب الشافعي، وأصحابه‏.‏ وعن بعض المالكية، وجماعة من العلماء منعه‏.‏

وما طبخ كالجص، والآجر ففيه أيضًا خلاف عن المالكية، والمنع أشهر‏.‏

واختلفوا أيضًا في التيمم على الجدار، فقيل‏:‏ جائز مطلقًا، وقيل‏:‏ ممنوع مطلقًا، وقيل بجوازه للمريض دون غيره، وحديث أبي جهيم الآتي يدل على الجواز مطلقًا‏.‏

والظاهر أن محله فيما إذا كان ظاهر الجدار من أنواع الصعيد، ومشهور مذهب مالك جواز التيمم على المعادن غير الذهب، والفضة ما لم تنقل، وجوازه على الملح غير المصنوع، ومنعه بالأشجار، والعيدان ونحو ذلك، وأجازه أحمد، والشافعي، والثوري على اللبد، والوسائد‏.‏ ونحو ذلك إذا كان عليه غبار‏.‏

والتيمم في اللغة‏:‏ القصد، تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصعيد تعمدته، وأنشد الخليل قول عامر بن مالك، ملاعب الألسنة‏:‏

يممته الرمح شزرًا ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق

ومنه قول امرىء القيس‏:‏ تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامى

وقول أعشى باهلة‏:‏ تيممت قيسًا وكم دونه من الأرض من مهمة ذي شزن

وقول حميد بن ثور‏:‏ سل الربع أني يممت أم طارق وهل عادة للربع أن يتكلما

والتيمم في الشرع‏:‏ القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه، واليدين منه بنية استباحة الصلاة عند عدم الماء، أو العجز عن استعماله، وكون التيمم بمعنى القصد يدل على اشتراط النية في التيمم، وهو الحق‏.‏

مسائل في أحكام التيمم

المسألة الأولى‏:‏ لم يخالف أحد من جميع المسلمين في التيمم، عن الحدث الأصغر، وكذلك عن الحدث الأكبر، إلا ما روي عن عمر، وابن مسعود، وإبراهيم النخعي من التابعين أنهم منعوه، عن الحدث الأكبر‏.‏

ونقل النووي في ‏(‏شرح المهذب‏)‏ عن ابن الصباغ وغيره القول برجوع عمر، وعبد الله بن مسعود عن ذلك، واحتج لمن منع التيمم، عن الحدث الأكبر بأن آية النساء ليس فيها إباحته إلا لصاحب الحدث الأصغر‏.‏ حيث قال‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا‏}‏ ، ورد هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أنا لا نسلم عدم ذكر الجنابة في آية النساء، لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏، فسره ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، بأن المراد به الجماع، وإذًا فذكر التيمم بعد الجماع المعبر عنه باللمس، أو الملامسة بحسب القراءتين، والمجيء من الغائط دليل على شمول التيمم لحالتي الحدث الأكبر، والأصغر‏.‏ الثاني‏:‏ أنه تعالى في سورة المائدة، صرح بالجنابة غير معبر عنها بالملامسة، ثم ذكر بعدها التيمم، فدل على أن يكون عنها أيضًا حيث قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ‏}‏ ‏.‏

فهو عائد إلى المحدث، والجنب جميعًا، كما هو ظاهر‏.‏ الثالث‏:‏ تصريحه صلى الله عليه وسلم بذلك الثابت عنه في الصحيح‏:‏ فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، أنه قال‏:‏ أجنبت فلم أصب الماء، فتمعكت في الصعيد وصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النَّبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه، وكفَّيه‏"‏‏.‏

وأخرجا في صحيحيهما أيضًا من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال‏:‏ ‏"‏كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى بالناس‏.‏ فإذا هو برجل معتزل، فقال‏:‏ ما منعك أن تصلي‏؟‏ قال‏:‏ أصابتني جنابة ولا ماء، قال‏:‏ عليك بالصَّعيد، فإنه يكفيك‏"‏‏.‏

والأحاديث في الباب كثيرة‏.‏

* * *

المسألة الثانية‏:‏ اختلف العلماء، هل تكفي للتيمم ضربة واحدة أو لا‏؟‏ فقال جماعة‏:‏ تكفي ضربة واحدة للكفين والوجه، وممن ذهب إلى ذلك الإمام أحمد، وعطاء، ومكحول، والأوزاعي، وإسحاق، ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره، وهو قول عامة أهل الحديث، ودليله حديث عمار المتفق عليه المتقدم آنفًا‏.‏

وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا بد من ضربتين‏:‏ إحداهما للوجه، والأخرى للكفين، ومنهم من قال بوجوب الثانية، ومنهم من قال بسنيتها كمالك، وذهب ابن المسيب، وابن شهاب، وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات‏:‏ ضربة للوجه، وضربة لليدين، وضربة للذراعين‏.‏

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ‏:‏ الظاهر من جهة الدليل الاكتفاء بضربة واحدة‏.‏ لأنه لم يصح من أحاديث الباب شيء مرفوعًا، إلا حديث عمار المتقدم، وحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصِّمَّة الأنصاري، قال‏:‏ ‏"‏أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من نحو بئر جمل فلقيه رجل، فسلم عليه، فلم يرد عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام، أخرجه البخاري موصولًا، ومسلم تعليقًا، وليس في واحد منهما ما يدل على أنهما ضربتان كما رأيت، وقد دل حديث عمار أنها واحدة‏.‏

* * *

المسألة الثالثة‏:‏ هل يلزم في التيمم مسح غير الكفين‏؟‏ اختلف العلماء في ذلك، فأوجب بعضهم المسح في التيمم إلى المرفقين، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهما، والثوري، وابن أبي سلمة، والليث، كلهم يرون بلوغ التيمم بالمرفقين فرضًا واجبًا، وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وابن نافع، وإليه ذهب إسماعيل القاضي‏.‏

قال ابن نافع‏:‏ من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدًا، وقال مالك‏:‏ في المدونة يعيد في الوقت، وروي التيمم إلى المرفقين مرفوعًا، عن جابر بن عبد الله، وابن عمر، وأبي أمامة، وعائشة وعمار، والأسلع، وسيأتي ما في أسانيد رواياتهم من المقال إن شاء الله تعالى، وبه كان يقول ابن عمر، وقال ابن شهاب‏:‏ يمسح في التيمم إلى الآباط‏.‏

واحتج من قال بالتيمم إلى المرفقين بما روي عمن ذكرنا من ذكر المرفقين، وبأن ابن عمر كان يفعله، وبالقياس على الوضوء، وقد قال تعالى فيه‏:‏ ‏{‏وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ‏}‏ ‏.‏

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ‏:‏ الذي يظهر من الأدلة ـ والله تعالى أعلم ـ أن الواجب في التيمم هو مسح الكفين فقط، لما قدمنا من أن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها شيء ثابت الرفع إلا حديث عمار‏:‏ وحديث أبي جهيم المتقدمين‏.‏

أما حديث أبي جهيم، فقد ورد بذكر اليدين مجملًا، كما رأيت، وأما حديث عمار فقد ورد بذكر الكفين في الصحيحين، كما قدمنا آنفًا‏.‏ وورد في غيرهما بذكر المرفقين، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط، فأما رواية المرفقين، ونصف الذراع، ففيهما مقال سيأتي، وأما رواية الآباط، فقال الشافعي وغيره‏:‏ إن كان ذاك وقع بأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم، فكل تيمم للنبي صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له‏.‏ وإن كان وقع بغير أمره، فالحجة فيما أمر به ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين، كون عمار كان يفتي بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك‏.‏ وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره‏.‏ ولا سيما الصحابي المجتهد، قاله ابن حجر في ‏(‏الفتح‏)‏‏.‏

وأما فعل ابن عمر، فلم يثبت رفعه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف على ابن عمر لا يعارض به مرفوع متفق عليه، وهو حديث عمار‏.‏

وقد روى أبو داود عن ابن عمر بسند ضعيف، أنه قال‏:‏ ‏"‏مرَّ رجل على النَّبي صلى الله عليه وسلم في سكَّة مِن السكك، وقد خرج من غائط أو بول فسلَّم عليه، فلم يرد عليه حتى كاد الرَّجل يتوارى في السكك، فضرب بيده على حائط، ومسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أُخرى فمسح بها ذراعيه‏"‏ ومدار الحديث على محمد بن ثابت، وقد ضعفه ابن معين، وأحمد والبخاري وأبو حاتم‏.‏ وقال أحمد والبخاري‏:‏ ينكر عليه حديث التيمم‏.‏ أي هذا، زاد البخاري‏:‏ خالفه أيوب، وعبيد الله والناس، فقالوا عن نافع عن ابن عمر فعله‏.‏ وقال أبو داود‏:‏ لم يتابع أحد محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورووه من فعل ابن عمر، وقال الخطابي‏:‏ لا يصح‏.‏ لأن محمد بن ثابت ضعيف جدًا، ومحمد بن ثابت هذا هو العبدي، أبو عبد الله البصري، قال فيه في التقريب‏:‏ صدوق، لين الحديث‏.‏

واعلم أن رواية الضحاك بن عثمان، وابن الهاد لهذا الحديث عن نافع عن ابن عمر، ليس في واحدة منهما متابعة محمد بن ثابت على الضربتين، ولا على الذراعين‏.‏ لأن الضحاك لم يذكر التيمم في روايته، وابن الهاد قال في روايته ‏"‏مسح وجهه ويديه‏"‏‏.‏ قاله ابن حجر، والبيهقي، وروى الدارقطني والحاكم، والبيهقي من طريق علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏التَّيم ضربتان‏:‏ ضربة للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين‏"‏‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ وقفه يحيى القطان، وهشيم وغيرهما، وهو الصواب، ثم رواه من طريق مالك عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا، قاله ابن حجر، مع أن علي بن ظبيان ضعفه القطان، وابن معين، وغير واحد‏.‏

وهو ابن ظبيان بن هلال العبسي الكوفي، قاضي بغداد، قال فيه في ‏(‏التقريب‏)‏‏:‏ ضعيف‏.‏

ورواه الدارقطني من طريق سالم عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ ‏"‏تيممنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيِّب، ثمَّ نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا، ثم ضربنا ضربة أخرى فمسَحْنا من المرافق إلى الأكف‏"‏، الحديث، لكن في إسناده سليمان بن أرقم، وهو متروك‏.‏

قال البيهقي‏:‏ رواه معمر وغيره عن الزهري موقوفًا، وهو الصحيح، ورواه الدراقطني أيضًا من طريق سليمان بن أبي داود الحراني، وهو متروك أيضًا عن سالم، ونافع جميعًا عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏"‏وفي التيمم ضربتان‏:‏ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين‏"‏، قال أبو زرعة‏:‏ حديث باطل، ورواه الدارقطني، والحاكم من طريق عثمان بن محمد الأنماطي عن عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏التيمم ضربة للوجه، وضَرْبة للذِّراعين إلى المرفقين‏"‏، ومن طريق أبي نعيم عن عزرة بسنده المذكور، قال‏:‏ ‏"‏جاء رجل، فقال‏:‏ أصابتني جنابة، وإني تمعَّكت في التراب، فقال‏:‏ اضرب، فضرب بيده الأرض فمسح وجهه، ثم ضرب يديه فمسح بهما إلى المرفقين‏"‏‏.‏

ضعف ابن الجوزي هذا الحديث بأن فيه عثمان بن محمد، ورد على ابن الجوزي بأن عثمان بن محمد لم يتكلم فيه أحد، كما قاله ابن دقيق العيد، لكن روايته المذكورة شاذة، لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوفًا، أخرجه الدارقطني، والحاكم أيضًا‏.‏

وقال الدارقطني في حاشية السنن، عقب حديث عثمان بن محمد‏:‏ كلهم ثقات، والصواب موقوف، قال ذلك كله ابن حجر في التلخيص، وقال في ‏(‏التقريب‏)‏ في عثمان بن محمد المذكور مقبول، وقال في ‏(‏التلخيص‏)‏ أيضًا‏:‏ وفي الباب عن الأسلع قال‏:‏ ‏"‏كنت أخدم النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بآية الصعيد، فأراني التيمم، فضربت بيدي الأرض واحدة، فمسحت بها وجهي ثم ضربت بها الأرض فمسحت بها يدي إلى المرفقين‏"‏ رواه الدارقطني، والطبراني، وفيه الربيع بن بدر، وهو ضعيف، وعن أبي أمامة رواه الطبراني، وإسناده ضعيف أيضًا‏.‏

ورواه البزار، وابن عدي من حديث عائشة مرفوعًا‏:‏ ‏"‏التيمم ضربتان‏:‏ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين‏"‏‏.‏ تفرد به الحريش بن الخريت، عن ابن أبي مليكة عنها قال أبو حاتم‏:‏ حديث منكر، والحريش شيخ لا يحتج به‏.‏

وحديث ‏"‏أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر‏:‏ تكفيك ضربة للوجه، وضربة للكفين‏"‏

رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو ضعيف، ولكنه حجة عند الشافعي‏.‏

وحديث عمار ‏"‏كنت في القوم حين نزلت الرخصة فأمرنا فضربنا واحدة للوجه، ثم ضربة أخرى لليدين إلى المرفقين‏"‏‏.‏ رواه البزار، ولا شك أن الرواية المتفق عليها عن عمار أولى منه‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، اهـ، منه‏.‏ فبهذا كله تعلم أنه لم يصح في الباب إلا حديث عمار، وأبي جهيم المتقدمين، كما ذكرنا‏.‏

فإذا عرفت نصوص السنة في المسألة فاعلم أن الواجب في المسح الكفان فقط، ولا يبعد ما قاله مالك رحمه الله من وجوب الكفين، وسنية الذراعين إلى المرفقين، لأن الوجوب دل عليه الحديث المتفق عليه في الكفين‏.‏

وهذه الروايات الواردة بذكر اليدين إلى المرفقين تدل على السنية، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال، فإن بعضها يشد بعضًا، لما تقرر في علوم الحديث من أن الطرق الضعيفة

المعتبر بها يقوي بعضها بعضًا حتى يصلح مجموعها للاحتجاج‏:‏ لا تخاصم بواحد أهل بيت، فضعيفان يغلبان قويًا، وتعتضد أيضًا بالموقوفات المذكورة‏.‏

والأصل إعمال الدليلين، كما تقرر في الأصول‏.‏

* * *

المسألة الرابعة‏:‏ هل يجب الترتيب في التيمم أو لا‏؟‏ ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي وأصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين ركن من أركان التيمم، وحكى النووي عليه اتفاق الشافعية، وذهبت جماعة منهم مالك، وجل أصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين سنة‏.‏

ودليل تقديم الوجه على اليدين أنه تعالى قدمه في آية النساء، وآية المائدة، حيث قال فيهما‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم‏}‏ ‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏أبدأ بما بدأ الله به‏"‏ يعني قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ‏}‏ ، وفي بعض رواياته ‏"‏ابدؤوا‏"‏ بصيغة الأمر‏.‏ وذهب الإمام أحمد، ومن وافقه إلى تقديم اليدين، مستدلًا بما ورد في صحيح البخاري في باب ‏"‏التيمم ضربة‏"‏ من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفَّيه ضربة على الأرض، ثمَّ نفضها، ثمَّ مسح بها ظهر كفَّه بشماله، أو ظهر شماله بكفِّه، ثمَّ مسح بها وجهه‏"‏، الحديث‏.‏

ومعلوم أن ‏"‏ثم‏"‏ تقتضي الترتيب، وأن الواو لا تقتضيه عند الجمهور، وإنما تقتضي مطلق التشريك، ولا ينافي ذلك أن يقوم دليل منفصل على أن المعطوف بالواو مؤخر عما قبله، كما دل عليه الحديث المتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ‏}‏ الآية، وكما في قول حسان‏:‏

هجوت محمدًا وأجبت عنه †

وعلى رواية ‏"‏الواو‏"‏ فحديث البخاري هذا نص في تقديم اليدين على الوجه، وللاسماعيلي من طريق هارون الحمال، عن أبي معاوية ما لفظه‏:‏ ‏"‏إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرضِ ثمَّ تنفضهما، ثم تمسح بيمينك على شمالك، وشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك‏"‏ قاله ابن حجر في الفتح، وأكثر العلماء على تقديم الوجه مع الاختلاف في وجوب ذلك، وسنيته‏.‏

* * *

المسألة الخامسة‏:‏ هل يرفع التيمم الحدث أو لا‏؟‏ وهذه المسألة من صعاب المسائل لإجماع المسلمين على صحة الصلاة بالتيمم عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله، وإجماعهم على أن الحدث مبطل للصلاة، فإن قلنا‏:‏ لم يرتفع حدثه، فكيف صحت صلاته، وهو محدث‏؟‏ وإن قلنا‏:‏ صحت صلاته، فكيف نقول‏:‏ لم يرتفع حدثه‏؟‏

اعلم أولًا أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة إلى ثلاثة مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ أن التيمم لا يرفع الحدث‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يرفعه رفعًا كليًا‏.‏

الثالث‏:‏ أنه يرفعه رفعًا مؤقتًا‏.‏

حجة القول الأول أن التيمم لا يرفع الحدث ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران المتقدم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فرأى رجلًا معتزلًا لم يصل مع القوم، فقال‏:‏ ‏"‏ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ أصابتني جنابة ولا ماء‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏عليك بالصَّعيد فإنه يكفيك‏"‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وكان آخر ذلك أن أعطي الذي أصابته الجنابة إناء من ماء‏.‏ قال‏:‏ اذهب فأفرغه عليك‏"‏، الحديث‏.‏ ولمسلم في هذا الحديث ‏"‏وغسلنا صاحبنا‏"‏ يعني الجنب المذكور‏.‏ وهذا نص صحيح في أن تيممه الأول لم يرفع جنابته‏.‏

ومن الأدلة على أنه لا يرفع الحدث ما رواه أبو داود، وأحمد، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم موصولًا، ورواه البخاري تعليقًا عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ‏"‏أنه تيمم عن الجنابة من شدة البرد‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ صليت بأصحابك وأنت جنب، فقال عمرو‏:‏ إني سمعتُ الله يقول‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏.‏ فضحك النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه‏"‏ قال ابن حجر في ‏(‏التلخيص‏)‏ في الكلام على حديث عمرو هذا‏:‏ واختلف فيه على عبد الرحمن بن جبير‏.‏ فقيل عنه عن أبي قيس عن عمرو، وقيل عن عن عمرو بلا واسطة‏.‏ لكن الرواية التي فيها أبو قيس، ليس فيها ذكر التيمم، بل فيها أنه غسل مَابنه فقط‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ روى هذه القصة الأوزاعي عن حسان بن عطية، وفيه‏:‏ ‏"‏فتيمم‏"‏‏.‏ ورجح الحاكم إحدى الروايتين على الأخرى‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ يحتمل أن يكون فعل ما في الروايتين جميعًا، فيكون قد غسل ما أمكن، وتيمم عن الباقي‏.‏ وله شاهد من حديث ابن عباس، وحديث أبي أمامة، عند الطبراني، انتهى من التلخيص لابن حجر‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ ما أشار إليه البيهقي من الجمع بين الروايتين متعين، لأن الجمع واجب إذا أمكن، كما تقرر في الأصول، وعلوم الحديث‏.‏

ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏صلَّيت بأصحابك وأنت جنب‏"‏، فإنه أثبت بقاء جنابته مع التيمم‏.‏

ومن الأدلة على أن التيمم لا يرفع الحدث حديث أبي ذر عند أحمد، وأصحاب السنن الأربع، وصححه الترمذي، وأبو حاتم من حديث أبي ذر، وابن القطان من حديث أبي هريرة عند البزار، والطبراني، قاله ابن حجر في التلخيص‏.‏

وذكر في ‏(‏الفتح‏)‏ أنه صححه ابن حبان، والدارقطني من حديث أبي ذر ‏"‏أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

أن الصعيد الطيِّب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته‏"‏ الحديث‏.‏ قال ابن حجر في التلخيص بعد أن ذكر هذا الحديث عن أصحاب السنن من رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر‏:‏ واختلف فيه على أبي قلابة، فقيل هكذا‏.‏ وقيل عنه عن رجل من بني عامر، وهذه رواية أيوب عنه، وليس فيها مخالفة لرواية خالد، وقيل عن أيوب عنه عن أبي المهلب عن أبي ذر، وقيل عنه بإسقاط الواسطة، وقيل في الواسطة محجن، أو ابن محجن، أو رجاء بن عامر، أو رجل من بني عامر، وكلها عند الدارقطني، والاختلاف فيه كله على أيوب، ورواه ابن حبان، والحاكم من طريق خالد الحذاء كرواية أبي داود، وصححه أيضًا أبو حاتم، ومدار طريق خالد على عمرو بن بجدان، وقد وثقه العجلي، وغفل ابن القطان فقال‏:‏ إنه مجهول‏.‏ هكذا قاله ابن حجر في التلخيص‏.‏

وقال في ‏(‏التقريب‏)‏ في ابن بجدان المذكور‏:‏ لا يعرف حاله، تفرد عنه أبو قلابة وفي الباب عن أبي هريرة رواه البزار قال‏:‏ حدثنا مقدم بن محمد، ثنا عمي القاسم بن يحيى، ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رفعه ‏"‏الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله، وليمسه بشرته، فإن ذلك خير‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ لا نعلمه عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ورواه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه مطولًا، أخرجه في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة، وساق فيه قصة أبي ذر وقال‏:‏ لم يروه إلا هشام، عن ابن سيرين، ولا عن هشام إلا القاسم، تفرد به مقدم، وصححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل‏:‏ إن إرساله أصح، انتهى من التلخيص بلفظه، وقد رأيت تصحيح هذا الحديث للترمذي، وأبي حاتم، وابن القطان، وابن حبان‏.‏

ومحل الشاهد منه قوله‏:‏ ‏"‏فإن وجد الماء فليمسه بشرته‏"‏، لأن الجنابة لو كان التيمم رفعها، لما احتيج إلى إمساس الماء البشرة‏.‏

واحتج القائلون بأن التيمم يرفع الحدث‏:‏ بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم، صرح بأنه طهور في قوله في الحديث المتفق عليه ‏"‏وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏"‏، وبأن في الحديث المار آنفًا ‏"‏التيمم وضوء المسلم‏"‏، وبأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏، وبالإجماع على أن الصلاة تصح به كما تصح بالماء، ولا يخفى ما بين القولين المتقدمين من التناقض، قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ الذي يظهر من الأدلة تعين القول الثالث، لأن الأدلة تنتظم به ولا يكون بينهما تناقض والجمع واجب متى أمكن‏.‏ قال في ‏(‏مراقي السعود‏)‏‏:‏

والجمع واجب متى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا

والقول الثالث المذكور هو‏:‏ أن التيمم يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا لا كليًا، وهذا لا مانع منه عقلًا ولا شرعًا، وقد دلت عليه الأدلة، لأن صحة الصلاة به المجمع عليها يلزمها أن المصلي غير محدث، ولا جنب لزومًا شرعيًا لا شك فيه‏.‏

ووجوب الاغتسال أو الوضوء بعد ذلك عند إمكانه المجمع عليه أيضًا يلزمه لزومًا شرعيًا لا شك فيه، وأن الحدث مطلقًا لم يرتفع بالكلية، فيتعين الارتفاع المؤقت‏.‏ هذا هو الظاهر، ولكنه يشكل عليه ما تقدم في حديث عمرو بن العاص، أنه صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏صليت بأصحابك وأنت جنب‏"‏، وقد تقرر عند علماء العربية أن وقت عامل الحال هو بعينه وقت الحال، فالحال وعاملها إذًا مقترنان في الزمان، فقولك‏:‏ جاء زيد ضاحكًا مثلا، لا شك في أن وقت المجيء فيه هو بعينه وقت الضحك، وعليه فوقت صلاته، هو بعينه وقت كونه جنبًا، لأن الحال هي كونه جنبًا وعاملها قوله صليت، فيلزم أن وقت الصلاة والجنابة متحد، ولا يقدح فيما ذكرنا أن الحال المقدرة لا تقارن عاملها في الزمان، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ‏}‏ لأن الخلود متأخر عن زمن الدخول أي مقدرين الخلود فيها، لأن الحال في الحديث المذكور ليست من هذا النوع‏.‏

فالمقارنة بينها وبين عاملها في الزمن لا شك فيها، وإذا كانت الجنابة حاصلة له في نفس وقت الصلاة، كما هو مقتضى هذا الحديث، فالرفع المؤقت المذكور لا يستقيم، ويمكن الجواب عن هذا من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏وأنت جنب‏"‏ قبل أن يعلم عذره بخوفه الموت إن اغتسل‏.‏

والمتيمم من غير عذر مبيح جنب قطعًا، وبعد أن علم عذره المبيح للتيمم الذي هو خوف الموت أقره وضحك، ولم يأمره بالإعادة، فدل على أنه صلى بأصحابه وهو غير جنب، وهذا ظاهر الوجه‏.‏ الثاني‏:‏ أنه أطلق عليه اسم الجنابة نظرًا إلى أنها لم ترتفع بالكلية، ولو كان في وقت صلاته غير جنب‏.‏ كإطلاق اسم الخمر على العصير في وقت هو فيه ليس بخمر في قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا‏}‏ نظرًا إلى مآله في ثاني حال، والعلم عند الله تعالى‏.‏

ومن المسائل التي تبنى على الاختلاف في التيمم، هل يرفع الحدث أو لا‏؟‏ جواز وطء الحائض إذا طهرت، وصلت بالتيمم للعذر الذي يبيحه، فعلى أنه يرفع الحدث يجوز وطؤها قبل الاغتسال، والعكس بالعكس‏.‏

وكذلك إذا تيمم ولبس الخفين‏.‏ فعلى أن التيمم يرفع الحدث يجوز المسح عليهما في الوضوء بعد ذلك، والعكس بالعكس‏.‏

وكذلك ما ذهب إليه أبو سلمة بن عبد الرحمن من أن الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء لا يلزمه الغسل، فالظاهر أنه بناه على رفع الحدث بالتيمم، لكن هذا القول ترده الأحاديث المتقدمة، وإجماع المسلمين قبله، وبعده على خلافه‏.‏ * * *

المسألة السادسة‏:‏ هل يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد فريضتان أو لا‏؟‏

ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز به فريضتان، أو فرائض ما لم يحدث، وعليه كثير من العلماء، منهم الإمام أحمد في أشهر الروايتين، والحسن البصري، وأبو حنيفة، وابن المسيب، والزهري‏.‏

وذهب مالك، والشافعي، وأصحابهما إلى أنه لا تصلى به إلا فريضة واحدة‏.‏ وعزاه النووي في شرح المهذب لأكثر العلماء، وذكر أن ابن المنذر حكاه عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، والشافعي، والنخعي، وقتادة، وربيعة، ويحيى الأنصاري، والليث، وإسحاق، وغيرهم‏.‏

واحتج أهل القول الأول بأن النصوص الواردة في التيمم، ليس فيها التقييد بفرض واحد، وظاهرها الإطلاق، وبحديث ‏"‏الصعيد الطيب وضوء المسلم‏"‏ الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح‏:‏ ‏"‏وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ‏}‏ ‏.‏

واحتج أهل القول الثاني بما روي عن ابن عباس رضي عنهما أنه قال‏:‏ من السنة ألا يصلي بالتيمم إلا مكتوبة واحدة، ثم يتيمم للأخرى، وقول الصحابي من السنة له حكم الرفع على الصحيح عند المحدثين، والأصوليين، أخرج هذا الحديث الدارقطني، والبيهقي من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عنه، والحسن ضعيف جدًا قال فيه ابن حجر في ‏(‏التقريب‏)‏ متروك، وقال فيه مسلم، في مقدمة صحيحه‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود قال‏:‏ قال لي شعبة‏:‏ ائت جرير بن حازم، فقل له‏:‏ لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عُمارة، فإنه يكذب‏.‏